عزلة الفن وبس

عزلة الفن


الفنون المختلفة لا تأتي بأفكار جديدة أو معان جديدة أو حقائق جديدة، ولكن الفنون تعرض هذه الأفكار والمعاني والحقائق فتنقلها من مجرد المعرفة إلى الإحساس بالمعرفة ومن مجرد الفهم إلى التأثر والتفاعل فتهز وجداننا وعواطفنا وتخرج هذه الأفكار العامة من جمودها إلى حياة تنبض بها وتتفاعل. هذه رسالة الفنون عموما، وإن لم تقم بها أصبحت هذه الفنون مجرد أشكال وصور ميتة لا حياة فيها ولا أثر لها حتى لو استوفت الصنعة والحرفية في إخراجها وصار الشعر منضبط الوزن والقافية والرواية متقنة الحبكة واللوحة متوازنة الألوان والتعبيرات.


ونضرب مثالا على ذلك، مأساة العراق الحالية يستطيع كل واحد منا أن يدرك ويفهم ما تنطوي عليه من تشريد وقتل واضطراب سياسي وانقسام طائفي وعرقي واحتلال سافر وأعداد متزايدة من الأرامل والثكالى واليتامى وقرارات سيادية تصدر خارج البلاد وصراعات إقليمية ودولية تدور على الساحة العراقية ونستطيع أن نفهم وندرك أن أجيالا تنشأ الآن في ضياع فكري وأن هوية البلاد تتفكك وتتلاشى تدريجيا. كل هذه معان وأفكار نستطيع أن ندركها ونفهمها، لكن قد يأتي شاعر فيصوغها في أبيات تنقلها من عالم الفهم إلى عالم التأثر والاهتزاز والتفاعل فيبث فيها الحياة ويعطيها قوة دافعة في اتجاهات مختلفة تعتمد على رؤية هذا الشاعر وفكره. قد يدفعنا بشعره إلى الإحباط واليأس، أو قد يستنفر فينا شعور المقاومة وعدم الرضوخ للأمر الواقع. فالأفكار والمعاني هي هي لم تتغير ولم يأت الشاعر فيها بجديد لكنه نقلها إلى عالم التأثر والوجدان. وقد يأتي مخرج فيقدم فيلما عن جانب من جوانب الحياة في العراق فإذا أنت ترى تلك الأفكار والمعاني الجادة حياة تلمس أوتار قلبك وتحرك عواطفك وتهز كيانك، مع أنك كنت تعرفها وتدركها قبل ذلك. إن أي شكل من أشكال الفن قادر على هذا التأثير ابلغ واقوى من كل الخطب السياسية والتحليلات الإعلامية والتقارير الصحفية. وقد يأتي روائي فيقدم رواية عن الواقع العراقي تشبه ما كتبه نجيب محفوظ مثلا في ثلاثيته عن الواقع المصري زمن ثورة 1919، فإذا بهذا الواقع في روايته ينبض بالحياة وإذا الأفكار والمعاني السائدة تنتقل إلى عالم التأثر والشعور.


ولقد عانينا في مصر وفي العالم العربي عموما من تراجع الفنون عن معترك الحياة العامة فلا تنقل الأفكار والمعاني التي تشكل هموم الناس ومعاناتهم وأحلامهم، وإنما انعزلت بعيدا في خيالات لا علاقة لها بواقع الحياة، وكانت النتيجة أن انصرف الناس عنها وأصبحوا لا تربطهم بالفنون رابطة، اللهم إلا من باب التسلية والترويح. واسأل نفسك كم مرة رددت قصيدة تأثرت بها عن هم من هموم حياتك اليومية أو حياتنا العامة. وكم مرة شاهدت فيلما عبر عن أفراح حياتك وأحزانها أو كم مرة قرأت رواية كانت مرآة صافية لأفكار تعتمل في عقلك ومعان تموج في نفسك؟ ... إن هذا شيئ قليل أو نادر. لقد انعزلت الفنون عن حياتنا وطفت على السطح بعض الممارسات الساذجة التي تتزيا بزي الفنون وهي إلى التهريج والمسخ أقرب وإلى الابتذال والسفاهة أشبه.


عزلة الفن عن حياتنا الحقيقية كان لها آثار سلبية كبيرة على مجتمعنا، جفت المشاعر وضعفت الهمم وفترت الطاقات لأن ثمة غذاء نفسي مفقود ومحرك للمشاعر معطل أو معطوب.


والقائمون على أمر الثقافة في بلادنا لا ينتبهون لهذه الأزمة التي هي من صميم عملهم، فتجدهم في عامتهم لا يبالون بهذا ويكذبون على أنفسهم وعلينا عندما يصورون لك واقع الفنون على غير حقيقتها التي نعرفها ونلمسها. قرأت منذ ايام للدكتور جابر عصفور في جريدة الأهرام مقالا عن حالة الثقافة العربية قال فيه ما نصه " ... لايزال المجلس الأعلي للثقافة يواصل مسيرته الحيوية في خدمة الثقافة العربية‏,‏ تأكيدا لوحدة التنوع الخلاق التي ينبغي أن تتسم بها هذه الثقافة‏,‏ وتجسيدا لقيم الابداع الذي اصبحت الرواية العربية تحتل موضع الصدارة فيه‏,‏ وإشاعة لثقافة الاستنارة والتقدم التي لا يزال المجلس الأعلي للثقافة مدافعا عنها ومجسدا لها في كل مؤتمراته ومنتدياته ومطبوعاته وأنشطة لجانه‏.‏ وها هو ملتقي القاهرة الرابع للابداع الروائي العربي يأتي تمثيلا حيا لأهداف المجلس واستراتيجيته الثقافية‏,‏ فهو قد جمع عشرات الروائيين الذين جاءوا من كل الأقطار العربية‏,‏ علي اختلاف توجهاتهم الفنية وتياراتهم الفكرية‏,‏ وفي تباين أجيالهم الابداعية‏,‏ وذلك تأصيلا لمعني التنوع الابداعي الخلاق لوحدة الثقافة العربية‏,‏ وفتحا لأفق واعد من الحوار الخصب الذي يثري مباديء الاختلاف اللازم لمستقبل لا مكان فيه للقمع أو الارهاب أو التطرف‏,‏ بل الحرية والتسامح وتقبل الاختلاف بوصفه علامة غني وأصالة في مدي إبداع الفن .." اهـ.


كأن الرجل يتكلم عن بلاد غير بلادنا أو كأننا نحن نعيش في بلاد غير بلاده. ولا أعرف كم من الناس يقرأ تلك المقالات (وإن كان العقل يفترض أن قليلا جدا من الناس من يقرأها) التي لا تعبر بحال عن الواقع الثقافي المر الذي نعيشه. وإذا كان هذا الكلام يقوله مسئول رفيع عن الثقافة فلا عجب أن تؤول الأمور إلى ما نراه الآن من فنون متردية ومنعزلة تساهم في حالة التراجع الحضاري الذي نشكو جميعا منه. بل وتعتبر سببا أصيلا في هذا التراجع وليست مجرد مساهمة فيه.